وفاة الدكتور إسماعيل يحي رضوان
بقلم أ.د عبد القادر بن حرزالله
رحل الدكتور إسماعيل سلامة يحيي رضوان ليلة الجمعة الثاني عشر من رمضان 1437هـ إلى مثواه الأخير، بعد أن أجرى اختباره الاستدراكي لطلبته في قسم اللغة والحضارة قبل وفاته بيوم، كانت تبدو عليه علامات التعب، وجهد الصيام في يوم حار، ومع ذلك لم يبخل بابتسامته المعهودة على كل من صادفه في ذلك اليوم، لنتفاجأ بخبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى إثر مرض مفاجئ عقب الإفطار، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولد بقرية "الداويمة" في محافظة الخليل عام 1942 م، وتعلم القرآن على يد شيخ القرية كما يصرح هو بذلك، ثم هاجر على إثر نكبة فلسطين عام 1948 م إلى مخيم "الجلزون" قرب مدينة رام الله في الضفة الغربية وهناك درس المراحل الأولى للتعليم بشكل نظامي، ثم التحق بمدارس الحكومة الأردنية للمرحلة الثانوية في مدينة رام الله، لتتوج جهوده بالتخرج منه عام 1962 م في القسم الأدبي.
بعد ذلك التحق بمركز تدريب المعلمين التابع لوكالة "غوث الدولية" في مدينة رام الله، وتخرج منه عام 1964م.
ثم تعاقد مع وزارة التربية لحكومة الكويت في هذا العام الذي تخرج فيه، وبقي مدرساً بها حتى عام 1977م، ومن خلال عمله في الكويت تابع دراسته ليحصل على شهادة الليسانس في الآداب من جامعة بيروت عام 1973م، ثم تابع مسيرة الدراسة فحصل على ديبلوم الدراسات الإسلامية من معهد الدراسات الإسلامية في القاهرة، ثم حصل على شهادة الماجستير من جامعة "البنجاب" في باكستان عام 1984م، ثم تابع مساره العلمي إلى أن حصل على درجة الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1989م.
أول ما عرفت الدكتور إسماعيل يحي رضوان عام 1995، عندما كنا في فترة الدراسة النظرية لمرحلة الماجستير تخصص الفقه وأصوله بالمعهد الوطني للتعليم العالي للعلوم الإسلامية الذي كان يديره الدكتور الطاهر حليس رحمه الله، وفي تلك الفترة كان هناك نقص كبير في الأساتذة المتخصصين في الفقه وأصوله، وكان الدكتور إسماعيل أستاذاً متعاقداً بجامعة الأمير عبد القادر، ولسد هذا النقص اتصل به مدير المعهد لتدريسنا في مقياس أصول الفقه فتم الاتفاق على تدريسنا هذا المقياس بصفة مكثفة، فكانت الحصة الأولى في "الاستحسان الحنفي" فقدمه لنا بعبارته البسيطة وأسلوبه الواضح وطريقته الهادئة في عرض القضايا الأصولية واستماعه المنصت لملاحظات جميع الطلبة دون كلل أو ضيق... هكذا عرفناه، وبعد نهاية الدراسة النظرية في تلك الفترة غادر أغلب الأساتذة الجامعات الجزائرية بسبب سوء الظروف الأمنية ومن بينهم مشرفي السابق الدكتور: "حسيب حسن السمرائي" ـ رحمه الله وطيب ثراه بسحائب الرحمة والرضوان ـ فاتصلت به في تلك الفترة وعرضت عليه تبني الإشراف فرفض وصرح انه يشرف عل 40 طالباً ولا يزيد، وبعد إلحاح مني قبل ذلك على مضض، فتوطدت الصلة بيني وبينه إلى أن أشرف علي كغيري من الأساتذة في أطروحة الدكتوراه وظل يتابع ويشجع أعمالي العلمية باهتمام كبير.
ـ منهجه في التدريس: الدكتور إسماعيل ـ رحمه الله - يعول كثيراً على وضوح العبارة، ومنطقية الفكرة، والرصانة في الإلقاء، وضبط المعاني بطريقة يسهل على الطلبة استيعابها، يشعرك بأبوته العلمية إن حالفك الحظ وجلست في محراب تعليمه، كان سهلاً سمحاً في جميع معاملاته مع طلبته خاصة في الجانب الحقوقي لهم، يفضله الكثير من الطلبة والأساتذة في لجان مناقشاتهم وتأهيلهم، طلباً لمرونته، وطمعاً في عفوه عن بعض زلاتهم وهفواتهم، التي ينظر لها بعين الرحمة ويجد لها مخارج علمية وفقهية قلّما ينتبه لها... وهي أخطاء قد ينظر لها البعض بعدسات مكبرة، تفضي إلى تحطيم جهود الطالب ودفعه نحو أتون الفشل وهو قريب من النجاح مستعد للحصاد.
ـ منهجه في الإشراف والمناقشة: أطر وناقش الدكتور إسماعيل مئات المذكرات والرسائل والأطروحات في مستوى الماستر والماجستير والدكتوراه في كل من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية وكذا كلية العلوم الإسلامية المعهد الوطني للتعليم العالي للعلوم الإسلامية سابقاً، وهذه المذكرات والأطروحات إلى اليوم تأخذ حيزاً كبيراً من شقته المتواضعة بحي 800 مسكن، وأغلب شهادات الدكتوراه للرعيل الأول من أستاذة كلية العلوم الإسلامية في تخصص الفقه والأصول كان له شرف الإشراف عليها أو مناقشتها، أو رعايتها بطريقة أو أخرى. يمتاز رحمه الله بإعطائه حرية كبيرة لطلبته في الصياغة العلمية لأبحاثهم، وعرض وجهات نظرهم والدفاع عنها، ولا يتدخل في أي شيء من ذلك ما لم يجد داع علمي أو لغوي أو منهجي، وأشد ما يظهر في ملاحظاته غيرته على اللغة العربية وحرصه على تتبع الأخطاء الشائعة في تراكيبها، وتصحيحيها بخطه الجميل في متون ما يكتبه الطلبة، ويحرص على بيان ذلك في المناقشة متى وجد شيئاً من ذلك. وفي الكثير من الأحيان كانت مداخلاته في مناقشة الأطروحات العلمية تضفي على المناقشة نوعاً من التوازن في حفظ حقوق المشرف والطالب وبقية أعضاء لجنة المناقشة، فكان مشبعاً بفطرته بالوسطية والسماحة وكظم الغيظ ، وفقه التعامل مع الآخر، واحترام وجهة نظر الغير وإن لم يقتنع بها، وهي قيم وفق في استثمارها وتطبيقها في المجالات العلمية على نحو يرضي جميع الأطراف، ويقرب بين وجهات النظر المختلفة بطريقة عادلة قلما يوفق فيها غيره من الأساتذة.
ـ اهتماماته العلمية والثقافية: درس الدكتور إسماعيل أصول وفقه الظاهرية، وكان معجباً بالفقه الحزمي في بعض الفروع الفقهية التي لها امتدادات معاصرة ، وفي بعض مناقشاته كان ينبه على مدى وجاهة بعض هذه الآراء التي تصنف تاريخياً على أنها مرجوحة إلا أن تقلبات الزمن وتزاحم المصالح قد يبرز وجاهة بعض الآراء المهجورة. وكثرت اهتماماته في السنين الأخيرة بالكثير من القيم التربوية وبعض اللطائف التراثية المروية عن الزهاد والصالحين وكبار الأئمة، والتي كان يذكر بها طلبته ورفاقه الأساتذة في زحمة الحياة وضغط العمل، خاصة قيمة "الصبر والاحتساب"، والتذكير بنعم الله على عباده ووجوب الشكر عليها ، خاصة النعم العامة التي يرفل فيها الكثير من الناس لكنهم يغفلون عنها لدوامها وخصوصها المشتبه بالعموم ، كنعمة الصحة والعافية في الأبدان والأمن والسلام في الأوطان، فيتخير الفرص ويتصيد المناسبات ليمتع مستمعه بحديث، أو آية، أو حكمة، أو أثر له تعلق بآحاد أو بعض أو كل تلك النعم، كما كان شديد التذكير بما تعانيه بعض المجتمعات العربية والإسلامية من فقد لبعض هذه النعم وابتلاءاتها العويصة بذلك، وما ترتب في واقعها من تراجعات كبرى في مسارها التاريخي، كما كان مهتماً بالتحذير من الآراء المتطرفة في بعض المسائل الفقهية ومن الغلو في الدين، ومن الفهوم الفجة لنصوص الشرع الحكيم أو تطبيقاتها القاصرة، فكان شعاره في ذلك " القصد القصد تبلغوا .." أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وللدكتور إسماعيل ـ رحمه الله ـ متابعات حثيثة لأخبار العالم الإسلامي والعربي في الفضائيات العربية، خاصة في المحطات الكبرى والتحولات المعاصرة الأخيرة الواقعة فيها، ويعلق عليها بخلاصات موجزة يستحضر فيها تجاربه ومحطاته في فلسطين والكويت والأردن، فلا يحتاج إلى فلسفة كثيرة لإقناعك بتفسير ما يحدث في العالم العربي والإسلامي .
ـ علاقاته بالأساتذة والعمال والطلبة: كان كريماً بسلامه، يسلم على من عرف وعلى من لم يعرف، بشوشاً مبتسماً ، مذكراً بالله ونعمه، يتودد لأبسط العمال ويكثر الحديث معهم ، يعرفهم على كثرتهم بالاسم والرسم، وهي قيم نبيلة نحن في أشد الحاجة للمحافظة عليها وتعميقها في الوسط الجامعي بين الأساتذة والعمال ، أما علاقته بزملائه الأساتذة فهي محفوفة بعزة النفس وعلو الهمة، فلا يزاحمهم على مقاييس التدريس أو بعض الاستحقاقات البيداغوجية كالإشراف أو المناقشة ونحو ذلك، بل قد يتنازل عن تدريس مقياس إذا علم أن غيره طلبه، ورغم كبر سنه وعظم عطائه، وعلو مكانته بيننا ، فإننا لم نسجل له أي تقصير أو تقاعس في أداء واجباته البيداغوجية التي كان متثبتاُ ومحتاطا في تسجيل تواريخها حتى لا تقع أي غفلة منه في أدائها على أحسن وجه ، رحمك الله يا دكتور، وطيب ثراك بسحائب الرحمة والرضوان، ووفقنا إلى المحافظة على هذه القيم الأخلاقية والعلمية الفريدة في الوسط الجامعي أساتذة وعمالاً وطلبة.
ـ مؤلفاته وآثاره العلمية: ترك الدكتور إسماعيل عدة مؤلفات وآثار علمية منها:
1- مؤلفات مشتركة في كتب محو الأمية في وزارة التربية في الكويت.
2- أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراه حول منهج ابن حزم في الاجتهاد طبعتها دار الرشد بالرياض، السعودية.
3- كتاب عنوانه مكفرات الذنوب اعتنى فيه بجمع الأحاديث المتعلقة بهذا الجانب.
- وفاته وجنازته:
توفي الدكتور إسماعيل - رحمه الله - ليلة الثاني عشر من رمضان 1437هـ عقب مرض مفاجئ تاركاً حزنا عميقا لدى كل من عرفه: زوجته وابنتيه وزملائه وطلبته وسائر الذين يعرفونه بأدبه الجم وخلقه المتواضع، وقد شيعت جنازته في موكب مهيب بحضور السيد مدير جامعة باتنة البروفيسور "عبد السلام ضيف" والطاقم الإداري لكلية العلوم الإسلامية وعدد كبير من الأساتذة والعمال وبعض الطلبة، وكان ذلك يوم الثالث عشر من رمضان بقرية أولاد دراج ضواحي المسيلة.
اللهم اغفر لعبدك وابن عبدك أستاذنا وشيخنا الدكتور إسماعيل رضوان، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، اللهم أنزله منازل الصديقين والأبرار، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم يمّن كتابه، وهون حسابه، ولين ترابه، وألهمه حسن جوابه، وطيب ثراه، واجعل الجنة مستقره ومأواه.
عميد الكلية
أ.د عبد القادر بن حرزالله